
كيف تؤثر السينما على قراراتنا الحياتية؟
في عصر تتسارع فيه وتيرة الأحداث، وتزداد فيه الضغوطات النفسية والاجتماعية، تبقى السينما واحدة من أكثر الوسائل تأثيرًا في الوجدان البشري. ليست السينما مجرد وسيلة للترفيه أو للهروب من الواقع، بل هي مرآة تعكس هموم المجتمع، ومختبر تتبلور فيه القيم، وتتولد عبره الأفكار، وتتشكل أحيانًا قراراتنا المصيرية.
لكن، كيف يمكن لفيلم لا يتجاوز مدته الساعتين أن يؤثر على قراراتنا الحياتية التي قد تغير مصيرنا بالكامل؟ هذا السؤال لا يبدو بسيطًا كما قد يبدو في الظاهر، والجواب عليه يتطلب الغوص في أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية عميقة.
السينما كأداة تشكيل الوعي الجمعي
تقوم السينما، منذ نشأتها، بدور ثقافي عظيم، فهي تنقل الرسائل المجتمعية وتعيد طرح الأسئلة الوجودية، وتقدم نماذج متعددة من أنماط الحياة والشخصيات. هذا التفاعل بين المتلقي والعمل الفني يخلق حالة من “الاندماج العاطفي”، تجعل المُشاهد في أحيان كثيرة يتقمص شخصية البطل، ويعيش صراعاته، ويشعر بآلامه وانتصاراته.
عندما يرى المشاهد شخصية تتخذ قرارًا شجاعًا، كترك وظيفة مستقرة من أجل حلم، أو مواجهة ظالم رغم المخاطر، فإن هذه المواقف لا تمر مرور الكرام. قد لا يغير المشاهد حياته مباشرة، لكنه يبدأ بمراجعة قناعاته، وربما يزرع الفيلم في داخله فكرة ظل يتجاهلها طويلًا.
صناعة النموذج: كيف تؤثر الشخصيات السينمائية على خياراتنا؟
كل إنسان يبحث عن نموذج يُحتذى به، والسينما تقدم باقة واسعة من الشخصيات المتنوعة: القائد الشجاع، الأم المكافحة، الشاب الثائر، الحكيم الصامت، والضعيف الذي يتحول إلى بطل.
هذه النماذج تؤثر في لا وعينا أكثر مما نتصور. فعندما يُعرض فيلم يظهر فيه شاب ينجح رغم الظروف القاسية، قد يتولد لدى شاب آخر حافز قوي لتغيير مسار حياته. وعندما نرى شخصية تترك حياة زائفة لتبحث عن ذاتها الحقيقية، قد نتجرأ نحن أيضًا على اتخاذ قرارات مماثلة.
الأمر لا يتعلق فقط بالإعجاب، بل بتشجيعنا على رؤية إمكانياتنا، وكسر القيود التي فرضناها على أنفسنا بفعل العادات أو الخوف.
السينما وتغيير المواقف الاجتماعية
ليست كل القرارات الحياتية فردية؛ أحيانًا يكون التغيير المطلوب في نظرتنا لقضايا معينة، مثل الزواج، التربية، العمل، العلاقات الاجتماعية، أو حتى المواقف من قضايا جدلية مثل حقوق المرأة أو الحريات الفردية.
أفلام كثيرة لعبت دورًا محوريًا في تغيير الصورة النمطية لبعض الفئات. مثلًا، أفلام تناولت معاناة المرأة في المجتمع أو نضال الأقليات، لم تكتف بعرض المأساة، بل دفعت المشاهد لإعادة التفكير في مواقفه، وربما اتخذ بعضهم قرارًا فعليًا بالوقوف إلى جانب هذه القضايا.
السينما والتحفيز الذاتي
في بعض الأحيان، نشاهد فيلمًا في لحظة مفصلية من حياتنا. قد نكون في حالة إحباط، أو على مفترق طرق، أو نمر بتجربة مؤلمة. تأتي السينما هنا كرفيق حميم يهمس لنا برسالة أمل أو يحرض فينا الرغبة في التغيير.
فيلم واحد، برسالة بسيطة، قد يحفز شخصًا على بدء مشروع جديد، أو الخروج من علاقة سامة، أو العودة إلى الدراسة، أو حتى طلب مساعدة نفسية.
هذا الأثر ليس خيالًا، بل موثق في تجارب حقيقية لملايين الأشخاص حول العالم، الذين يربطون تحولاتهم الشخصية بلحظة مشاهدة مؤثرة لفيلم ما.
الجانب السلبي: حين تدفعنا السينما لقرارات خاطئة
لكن، لا يمكن الحديث عن تأثير السينما دون الإشارة إلى الجانب المظلم. فبعض الأفلام تُقدم أنماطًا مشوهة للنجاح، أو تروج للعنف كحل، أو تخلق صورة رومانسية زائفة للعلاقات.
إذا لم يكن المشاهد واعيًا، فقد يتأثر سلبًا ويقلد سلوكيات غير صحية أو يتخذ قرارات متهورة بناء على رسائل سينمائية مضللة.
لذلك، لا بد من الوعي النقدي أثناء المشاهدة، وفهم السياق الفني والثقافي للفيلم، بدلًا من تقليد أعمى لما يُعرض على الشاشة.