
حقيقة تأثير السينما على العادات والتقاليد: بين التغيير والتأثير المتبادل
في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، تبقى السينما واحدة من أقوى أدوات التأثير الثقافي والاجتماعي. فمنذ نشأتها في بدايات القرن العشرين، لم تكن السينما مجرد وسيلة للترفيه، بل تطورت لتصبح مرآةً للمجتمع ونافذة يطل منها الناس على ثقافات وعوالم جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بإلحاح هو: ما حقيقة تأثير السينما على العادات والتقاليد؟ وهل هي مجرد انعكاس للمجتمع، أم أنها قوة قادرة على إعادة تشكيله؟
أولاً: السينما كمرآة للمجتمع
تُظهر التجربة التاريخية للسينما في مختلف أنحاء العالم أن المخرجين غالبًا ما يستلهمون قصصهم من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيشونه. فعندما نشاهد فيلمًا مصريًا من خمسينيات القرن الماضي، نجد أنفسنا أمام صورة صادقة للمجتمع حينها: اللباس، اللغة، العلاقات الأسرية، وقيم الاحترام والتقدير. وهو ما ينطبق أيضًا على السينما الإيرانية، الهندية، والأمريكية في فترات زمنية مختلفة.
لكن، هل هذا يعني أن السينما مجرد انعكاس لما هو موجود فقط؟ الجواب ليس بهذه البساطة.
ثانيًا: السينما كأداة للتأثير والتغيير
السينما لا تكتفي بعكس الواقع؛ بل تملك القدرة على تشكيله، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فحين تُعرض مشاهد متكررة تسوّق لنمط معين من الحياة، فإنها تغرس في الوعي الجمعي أفكارًا قد تُصبح مع مرور الزمن جزءًا من الممارسات اليومية. على سبيل المثال:
- تغيّر النظرة إلى العلاقات الأسرية: في كثير من الأفلام، خصوصًا في السينما الغربية، تُعرض العائلة كوحدة مرنة يمكن إعادة تشكيلها حسب الظروف، دون التمسك بالروابط التقليدية، وهو ما أثّر في بعض المجتمعات العربية، خاصةً بين الأجيال الجديدة، التي بدأت تنظر إلى مفهوم الأسرة بمنظور مختلف.
- اللباس والمظهر العام: الأزياء التي ترتديها نجمات السينما أو الأنماط التي يروج لها النجوم، غالبًا ما تُصبح لاحقًا موضة دارجة، حتى إن لم تكن تتناسب مع الخصوصية الثقافية لمجتمع معين.
- اللغة والمصطلحات: تسللت العديد من العبارات والمصطلحات السينمائية إلى لغات الناس اليومية، بعضها حمل دلالات جديدة، وبعضها كان له وقع سلبي على الذوق العام ومستوى الخطاب المجتمعي.
ثالثًا: بين التأثر والتقليد الأعمى
لا يمكن الحديث عن تأثير السينما دون التوقف عند ظاهرة التقليد الأعمى، حيث يقوم بعض الشباب بتقليد ما يشاهدونه في الأفلام دون وعي بالسياق الثقافي أو الاجتماعي للفيلم. هذه الظاهرة تُعد من أخطر نتائج التأثر السينمائي السلبي، حيث يتبنى بعض الأفراد أنماط حياة غريبة عن مجتمعاتهم، مما يخلق فجوة ثقافية بينهم وبين محيطهم.
وقد ظهر هذا بشكل واضح في عدة بلدان عربية، حيث انتشرت مظاهر وسلوكيات دخيلة على العادات والتقاليد المحلية، مثل العلاقات المفتوحة، استخدام الألفاظ السوقية، والتشبه الكامل بنجوم السينما الغربية في اللباس والسلوك.
رابعًا: السينما كوسيلة للحفاظ على الهوية أيضًا
لكن من الإنصاف أيضًا أن نقول إن السينما ليست فقط وسيلة للتأثير السلبي، بل إنها كانت ولا تزال وسيلة قوية لتعزيز الهوية الثقافية والحفاظ على التراث. العديد من الأفلام العربية الكلاسيكية والمُعاصرة سلّطت الضوء على التقاليد الجميلة التي نعتز بها، مثل:
- احترام الكبير والتقدير للأسرة.
- الاحتفاء بالمناسبات الدينية والوطنية.
- عرض الحِكم الشعبية والموروثات الاجتماعية في سياق درامي مؤثر.
كما أن هناك موجة من الأفلام الحديثة التي تُركز على قضايا الهوية والخصوصية الثقافية، وتحاول تقديم محتوى يناسب الجيل الجديد دون أن يُفرّط في القيم الراسخة. هذه النوعية من الأعمال تُعد محاولة جادة للتوازن بين الانفتاح والتمسك بالثوابت.
خامسًا: دور الوعي المجتمعي في تقنين التأثير
يبقى الوعي المجتمعي هو خط الدفاع الأول ضد التأثير السلبي للسينما. فكلما كان الأفراد واعين بخطورة التقليد الأعمى، ومدركين للفروقات بين ما يُعرض على الشاشة وما يُناسب واقعهم، كلما قلّ تأثير السينما السلبي، وزاد تأثيرها الإيجابي.
وفي هذا السياق، تلعب الأسرة دورًا حاسمًا في توجيه الأبناء نحو المشاهدة الواعية، كما أن المؤسسات التعليمية والثقافية مسؤولة عن بناء ذائقة سينمائية نقدية، قادرة على التمييز بين الفن الهادف والمحتوى الهدّام.